بينما كانت سوريا تعيش ساعاتها الأخيرة تحت سيطرة النظام، كان سجن صيدنايا، ذلك المكان الذي يعتبر رمزاً للرعب والانتهاكات، يشهد أحداثاً درامية، تحول إلى ساحة معركة صامتة، وأصبح شاهداً على انهيار النظام في لحظاته الأخيرة. فما الذي جرى خلف تلك الأبواب المغلقة؟ وكيف تعامل المعتقلون والمهاجمون مع تلك اللحظات المصيرية قبل اقتحام الثوار؟
في تلك الليلة، كانت أجواء سجن صيدنايا مشحونة بالخوف والترقب. وفقاً للشهادات التي تم توثيقها، بدأت المعركة خارج أسوار السجن عندما سُمع صوت إطلاق نيران كثيفة ومضادات جوية. لم يكن من الواضح مع من كانت هذه الاشتباكات.
تفاصيل الليلة الأخيرة في سجن صيدنايا: شهادة المعتقل سهيل الدقس
أخبار الآن قابلت المعتقل السابق في سجن صيدنايا سهيل الدقس الذي روى تفاصيل الليلة الأخيرة في السجن قائلاً: “سمعت صوت شاحنة ثقيلة تُستخدم لنقل من يحتاج إلى إسعاف من الميدان أو لنقل المتوفين إلى مشرحة مستشفى الشريف. حاولت النوم لكنني لم أتمكن من ذلك، حوالي الساعة الواحدة ليلًا، بدأت معركة في الخارج مع أصوات مضادات وضرب نار، دون أن أتمكن من معرفة أطراف المواجهة”.
تابع:”خلال الأيام الأخيرة قبل تحرير بعض المناطق، لاحظنا تغيراً في تعامل الحراس، حيث أصبح الطعام يُقدم بشكل مختلف، وازدادت الفوضى داخل السجن. كان السجناء يعيشون بين الأمل والخوف، حتى جاءت لحظة التحرير، كنا نسمع يومياً صوت دبابتين أو مدرعتين تصل إلى باب السجن وتتوقف هناك. تلك الليلة، تحركت الشاحنات (أنتر)، لكنها لم تغادر السجن. السجن يقع في منطقة مرتفعة، لذلك السيارات الثقيلة تجد صعوبة في النزول منه. بعدها هدأ صوت المعركة تدريجياً، وشعرت بأنها معركة وهمية هدفها إبعاد الأنظار أو التظاهر بوجود مواجهة”.
“اختفى عناصر الأمن من السجن تلك الليلة، وأغلقوا كل الأبواب بإحكام. عادةً يكون هناك سبعة أبواب تفصلنا عن الخارج، وقد أغلقوها جميعها. افتكرت أن الثوار خسروا المعركة، معظم الشباب كانوا نائمين، ولكن فجأةً سمعنا إطلاق نار في الهواء، وكأنها طلقتان فقط، فاستيقظ الجميع، بدأ البعض يقول: “هل جاءوا ليقتلونا؟”. ثم فهمنا أن إطلاق النار كان من المجاهدين الذين كانوا يكسرون الأقفال باستخدام قضبان الحديد. صرخ أحدهم قائلًا: “افتحوا الأبواب، انزلوا للطابق الثاني”. عندها شعرنا بمزيج من الفرح والخوف، إذ كنا ننتظر لحظة التحرر، لكننا كنا نخشى أن يكون هناك كمين”.
“خرجنا من الزنازين، وكانت النساء في الخارج تزغرد فرحاً بسقوط الإمبراطورية الظالمة. بعضهن كنّ يحملن صور أبنائهن أو أقاربهن الذين فقدوا منذ سنوات. شعرت بمشاعر مختلطة من الفرح والخوف، حيث كنت أتوقع أن يكون هناك جنود مختبئين قد يبدأون بإطلاق النار علينا”.
“رأيت مجاهدين يقفون خارج السجن، وشعرت بفرحة لا توصف. خرجنا وكان بيننا مرضى بالكاد يستطيعون السير، وكانوا يساعدون بعضهم البعض. رأيت ثلاثة شبان يساعدون أحدهم على الزحف. أما عن المروحيات، فلم أسمع صوتها، لكنني سمعت صوت شاحنتين كانتا تأتيان لنقل المرضى أو الموتى، كانت هذه اللحظات مختلطة بالأمل والخوف، وكانت النساء تزغرد فرحاً، وأهل المعتقلين يحتضنون بعضهم في مشاهد تعجز الكلمات عن وصفها”.
انسحاب المسؤولين الأمنيين وترك السجن للفراغ والفوضى
أما مدير رابطة معتقلي سجن صيدنايا، دياب سرية وصف لـ “أخبار الآن” الأحداث الدراماتيكية التي وقعت في الأيام الأخيرة قبل سقوط النظام داخل سجن صيدنايا، حيث انسحب معظم المسؤولين تاركين فراغاً أمنياً كبيراً. قال: “انسحب معظم الضباط المسؤولين عن السجن قبل يومين أو ثلاثة من سقوط النظام، تاركين خلفهم بعض الرقباء والمساعدين. انسحبوا إلى الساحل أو فروا إلى دول مجاورة مثل لبنان والعراق، ما أدى إلى فراغ أمني كبير داخل السجن. لم يبقَ سوى جندي واحد عند البوابة الرئيسية، كان يحاول بشجاعة منع المقتحمين من الدخول. استمر هذا الجندي في إطلاق النار حتى نفدت ذخيرته تماماً، ليتمكن المقتحمون بعدها من الاشتباك معه وقتله”.
“بعد القضاء على الجندي، واجه المقتحمون تحدياً آخر: فتح أبواب السجن. كان معروفاً أن هناك مفتاحين أساسيين لفتح السجن، يُحتفظ بهما عادةً في غرفة المساعدين. لكن المفاتيح لم تكن في مكانها المعتاد، ولم يكن لدى أي شخص معرفة دقيقة بموقعها. أحد الشهود يقول: “حتى زملاؤنا لم يكونوا يعلمون بموقع المفاتيح، وكنا في حالة ارتباك.” في ظل هذه الفوضى، اعتمد المقتحمون على وسائل بدائية لكسر الأقفال وفتح الأبواب”.
“كان المقتحمون يعيشون حالة من القلق الدائم، حيث كانوا يخشون عودة قوات النظام في أي لحظة. هذا الشعور دفعهم للتحرك بسرعة كبيرة لتحرير المعتقلين. كان الجميع تحت ضغط نفسي هائل، وكان من الصعب التصديق أن النظام قد انسحب تماماً. أحد الشهود يصف الوضع قائلاً: “كان الخوف يسيطر علينا، وكنا نخشى أن يتم إغلاق الأبواب علينا مجدداً أو أن تتم تصفيتنا.”
بعد جهود شاقة ومحاولات متكررة، استطاع المقتحمون تحرير المعتقلين. كانت تلك اللحظات مليئة بالمشاعر المختلطة: فرحة بالحرية بعد سنوات من القهر، وخوف من المجهول القادم. أصبحت تلك الساعات الأخيرة في سجن صيدنايا رمزاً للانتصار على الظلم، وشهادة حية على انهيار أحد أكثر الأنظمة قمعاً في التاريخ الحديث.
روى المعتقل السابق الدقس في حديثه لـ “أخبار الآن” الأساليب المروعة للتعذيب في سجن صيدنايا، بدءاً من الاستقبال القاسي باستخدام “الدولاب” والأسلاك الكهربائية، وصولاً إلى التعذيب الجسدي المستمر الذي يطال جميع أجزاء الجسم. قال: “عندما تصل إلى السجن، يكون أول ما يواجهه المعتقل هو التعذيب باستخدام “الدولاب”، حيث يتعرض الشخص للضرب بما لا يقل عن 200 جلدة بالكابل، بواقع 150 جلدة لكل معتقل جديد. هذا يُعدّ جزءاً من الترحيب الوحشي الذي يعكس عدم وجود أي عدالة أو شفافية في المحاكمات”.
“تعذيب المعتقلين لم يكن مقتصراً على أدوات محددة، فهناك حالات تعرض فيها البعض للضرب في أماكن حساسة، بينما كان آخرون يُجبرون على ارتداء ملابس داخلية فقط أثناء التعذيب”.
وتحدث الدقس عن ما كان يحدث مع المعتقلين المرضى، مثل حالات السل والأورام الناتجة عن التعذيب، وكيفية الإهمال الطبي المتعمد بحقهم قائلاً: “أحد المعتقلين كان في العزلة الانفرادية لمدة تسعة أيام، حيث كان يعيش في الظلام الدامس مع الحشرات كرفيق دائم، ولم يُسمح له بالطعام في اليوم الأول. وعندما حصل على الطعام، كان عبارة عن بقايا خبز يابس. أما بشأن المرضى، فقد كانوا يعانون في صمت دون علاج. أحدهم أصيب بورم في الحبال الصوتية، وكانت الأدوية التي تُرسلها عائلته تُباع من قِبل الحراس. كذلك، توفي معتقلون بسبب السل وأمراض أخرى نتيجة الإهمال، كان سجن صيدنايا معروفاً بوحشيته، وخصوصاً في جناح الإرهاب، إذ يتم الحكم على المعتقلين دون دفاع حقيقي، ويُصدر الأحكام ضباط أمن من دون أي صفة قضائية”.
إن ما حدث في سجن صيدنايا ليس مجرد قصة عن سقوط نظام، بل هو انعكاس لمعاناة الشعب السوري ورغبته العارمة في الحرية. تلك الساعات الأخيرة كانت بمثابة نافذة على نهاية حقبة مظلمة وبداية فصل جديد مليء بالتحديات والآمال.
تمكنت قوات المعارضة السورية في 8 ديسمبر 2024 من اقتحام السجن وتحرير المعتقلين من رجال ونساء وأطفال، وذلك بعد دخولها العاصمة دمشق والإطاحة بنظام الرئيس المخلوع بشار الأسد.
يقع السجن بالقرب من دير صيدنايا، على بعد حوالي 30 كيلومترًا شمال دمشق، وقد تم بناؤه في عام 1987. ينقسم السجن إلى قسمين؛ الأول يُعرف بـ”المبنى الأحمر”، وهو مخصص للمعتقلين السياسيين والمدنيين، بينما الثاني يُسمى “المبنى الأبيض”، ويخصص للسجناء العسكريين. يُعتبر هذا السجن من أكثر السجون العسكرية السورية تحصينًا، ويُلقب بـ”المسلخ البشري” بسبب ما يعانيه المعتقلون من تعذيب وظروف قاسية واكتظاظ، كما أطلق عليه اسم “السجن الأحمر” بعد الأحداث الدامية التي شهدها في عام 2008.
0 تعليق